9 يا أمي: علمتينا كل شيء إلا الراحة , فأنت لم تعلمينا كيف نسترخي
الجمعة، 3 فبراير 2012
إدارة أعمال,
عام,
قصص النجاح
كُتب لي أن أقابل السيدة الصينية "هيزل ماه" صاحبة المطعم الصيني الشهير في مونتريال Le Piment Rouge و التي تعني "الفلفل الأحمر" باللغة الفرنسية . هذا المطعم المصنف من فئة المطاعم الراقية , حصل على كثير من الجوائز على المستوى المحلي و الإقليمي و زاره الكثير من الوزراء و الرؤساء , منهم على سبيل المثال لا الحصر: رئيس وزراء كندا حالياً , و خمسة من رؤساء وزراء كندا السابقين ، و الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب , و الكثير من المشاهير و الممثلين و رجال الأعمال .
أمضيت في ضيافة هذه المرأة الكريمة 4 ساعات متواصلة , ثم تشرفنا بإستضافتها في إحدى المحاضرات في الجامعة لنتحدث عن ما وجدناه من خلال بحثنا عن حياتها و مطعمها و قصة كفاحها و نجاحها . ثم أسعدتنا لمَا وقفت مستقبلة سيل الأسئلة بكل رحابة صدر , و كان مما أدهشني فعلاً هو كرمها في إسداء المعلومة دون تحفظ .
ولدت السيدة هيزل ماه في الصين في عام 1943 و تبلغ من العمر حاليا 69 عاماً . ُقتل والدها الجنرال العسكري في حروب الثورة الشيوعية في الصين و عمرها 6 سنوات , تاركاً وراءه 5 أطفال . كانت هيزل هي كبرى الفتيات , و لها أخ يكبرها . عانوا كثيراً من الفقر و الشقاء بعد والدهم . فقام صديقٌ لوالدهم بتقديم معروفٍ للعائلة , و أرسل أخوها الأكبر إلى مدينة أخرى ليدرس في مدارسها على حسابه . و بقيت هيزل و أخواتها مع والدتهم يصارعون الحياة من أجل لقمة العيش .
دعاها جدها يوماً من الأيام بعد مقتل والدها فقال لها: "يا ابنتي , قد كبر بي السن , و لا أظن أني استطيع النفقة عليكم كلكم . أنت البنت الكبرى , و أخشى أنك ستكونين مسؤولة عن إطعام أخواتك" ..
مرت الأيام و السنون , و هاهي هيزل تتخرج من قسم المحاسبة من تايوان بعد أن انتقلت والدتهم إلى هناك بحثاً عن عمل . ثم انضمت هي إلى العمل ضمن أحد الوفود الرسمية الزائرة إلى كندا في عام 1966 , و أعجبتها البيئة هناك و خصوصاً في مونتريال , كما وقعت في حب مهندس صيني يكبرها بعشر سنوات . فقررت العودة إلى كندا بعد هذه الزيارة بعامين .
تزوجت هيزل فور وصولها إلى كندا , و رزقت بطفلين ذكرين يفصل بين أعمارهما سنة واحدة فقط . كانت الحياة عليها صعبة جداً , فهي غريبة و صغيرة و أم لطفلين , و لا تتكلم لا اللغة الإنجليزية و لا الفرنسية التي كانت لغة هذه المقاطعة . ثم قررت هيزل بعدها أن تدرس البكالوريوس مرة أخرى في تخصص التجارة لتستطيع العمل هنا فالنفقة لم تعد تكفي لعائلتها . لكن هذه المرة باللغة الإنجليزية في جامعة كونكورديا بعد أن تكفل أحد أصدقاء العائلة بتكاليف دراستها دعماً لهم . كانت أيام الدراسة صعبة جداً عليها مع عدم إتقانها للغة الإنجليزية , و فكرت كثيراً في ترك دراستها لولا منظر الصبية الجياع الذي كان يترآى بين عينيها في كل لحظة ..
مضت الأعوام , و تخرجت هيزل من البكالوريوس , ثم عملت كمحاسبة في شركة أمريكية تبيع المنتجات المنزلية . و أنهت الماجستير في إدارة الأعمال بدوام جزئي من نفس الجامعة . ثم ترقت في مناصبها حتى وصلت لمنصب نائب الرئيس للشؤون المالية في شركتها . كانت جادّة , حاذقة , متقنة , منجزة , لا تؤجل أي عمل . و هذا ما جعلهم يختارونها لترأس الفرع الكندي من الشركة , لكن من المبنى الرئيسي للشركة في نيويورك . رفضت هيزل هذا العرض لأسباب كثيرة , من أهمها فرقة العائلة . فما كان عليها إلا البحث عن وظيفة جديدة لأن المكان لم يعد لها . انهالت العروض عليها من المنافسين , لكن كان في عقدها السابق ما يمنع العمل مع أي منافس . ثم أتهاها عرضٌ مغري من شركة "دخان" , لكن أخلاقها و مبادئها لم تسمح لها بالعمل هناك .
باتت هيزل عاطلةً عن العمل , و أصبحت تمشي في الأسواق و المحلات بحثاً عن عمل . ثم دخلت مطعماً صينياً لتتناول غداءها . و في وقت انتظارها للطعام , تحدثت معها صاحبة المطعم , ثم عرضت عليها أن تبيع لها نصف المطعم بـ 80 ألفاً و تكون شريكتها مناصفة فيه . كانت لدى هيزل مشكلتان: فهي لا تملك مالاً , و لا تعرف الطبخ . أخبرتها صاحبة المطعم أنها تريدها للشؤون الإدارية و للتنظيف , و لن تُكلّف بمهمة الطبخ . و بالنسبة للمال , فتدفعه أقساطاً من أرباحها في المحل . و بعد 3 أشهر فقط , استطاعت هيزل أن تسدد الثمانين ألفاً . و استمرت بعدها لثلاثة أشهر أخرى , ثم باعت نصيبها مرة أخرى لشريكتها في المطعم .
ذُهلت هيزل من مدى حجم الأرباح في ذلك المطعم , مع أن الطعام المقدم في نظرها لم يكن لذيذاً و لم يكن فعلاً صينياً مع أن المطعم صيني . بل إن الطعام المقدم -كما تقول- هو عبارة عن وجبات دهنية و مقلية لا تُؤكل في الصين و إنما عرفت في شمال أمريكا على أنها وجبات صينية . كما أن المطعم كان قذراً و لا يركّز على جوانب جودة الطعام إطلاقاً . و هذا أحد أسباب بيعها لحصتها مرة أخرى لصاحبة المطعم , بجانب إختلاف الرؤية و الأطباع و مستوى التعليم و التفكير بينهما .
قرّرت هيزل أن تفتح مطعماً صينياً بتصنيف خمسة نجوم , يقدم الطعام الصيني الأصلي اللذيذ , و لا يوجد له شبيه لطبقته في مدينة مونتريال كلها . لم تكن تنقصها الأدوات المطلوبة للنجاح سوى بعض التمويل , فذهبت إلى 3 بنوك و رفضوها جميعاً . ثم دخلت على مدير أحد الفروع الذين يعرفونها لعملها السابق في الشركة , فقالت له: "قد كانت تواقيعي تُمضى على شيكات بالملايين , و الآن لا تقبلون مني قرضاً بـ 25,000 دولار لمشروعي الخاص؟" . فطلب منها أن تحضر دراساتها المالية لمطعمها , فأمضت طوال الليل تعمل عليها حتى صبّحته بها من الغد . ذُهل مدير البنك من قدراتها و وثق من نجاحها , و صرف لها مبلغ القرض خلال 3 أيام .
استأجرت هيزل مكاناً مميزاً لمطعمها , و أطلقت عليه اسم "الفلفل الأحمر" لأنه يستخدم في معظم أطباقهم الرئيسية في الصين . و بدأت في عام 1980 بـ 18 موظفاً فقط , و أحضرت طباخيها من نيويورك و الصين . و عملت ليلاً و نهاراً على إنجاحه حتى أصبح هو البيت لها و لأبناءها الصغار من كثرة ما يقضونه فيه من الوقت ..
لم يخب ظن هيزل كثيراً , و استطاعت أن ترد القرض الذي أخذته من البنك خلال 3 أشهر فقط . و بدأت شهرة مطعمها تطير في الآفاق , و اصطف الزبائن بالطوابير أمام المطعم , يقضون الساعة و الساعتين انتظاراً لخلو طاولة . و وصل عدد زبائن مطعمها في اليوم الواحد إلى 5000 زبون , كما بلغت صافي أرباحها السنوية أكثر من 5 مليون دولار . و بلغ عدد موظفي مطعمها 400 موظفاً ..
لم تركن هيزل إلى نجاحها و تقف , ففي كل ثلاثة أشهر تقوم هيزل بتغيير قائمة الطعام و إدخال أصناف جديدة . كما قامت بترميم المكان 3 مرات -كل عشر سنوات- و أوكلت ذلك إلى مصمم ديكور مشهور , و كلفتها كل ترميمة مبلغ مليون دولار . و بجانب تركيز هيزل على مسألة الراحة في المكان , كانت تركّز كثيراً على التميّز و البشاشة في الخدمة , و قبل ذلك كله , تركزّ على جودة الطعام المقدم . كما أنها تقوم دوماً بتصفح النت لرؤية ما يكتبه الناس من ملاحظات حول مطعمها لتقوم بتفاديه و تصحيحه ..
تنام هيزل يومياً عند الواحدة صباحاً و تستيقظ عند الخامسة صباحاً . ثم تؤدي مهام بيتها و أبناءها و مطعمها حتى الحادية عشر ليلاً . هذا جدولها اليومي منذ أن شرعت في تجارتها . كما أنها لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد إطلاقاً . و أذكر مثالاً من تجربتي معها : فقد قمت و مجموعتي بإرسال مجموعة من الأسئلة قبل اللقاء بيوم لتطّلع عليها و تعرف طبيعة لقاءنا , فتفاجأنا بردها على جميع الأسئلة في الساعة الثالثة و النصف صباحاً و عبر البلاك بيري !
تملك هيزل حالياً عددا من المطاعم الفخمة و المميزة في أمريكا و كندا , لكنها تقضي معظم وقتها في هذا المطعم الذي كان سبباً بعد الله في نجاحها و شهرتها التي صاحبتها في كل مكان . كما أنها تقوم كثيراً بمساعدة المهاجرين و المغتربين بتوظيفهم لديها لأنها عاشت ظروفهم و تعرف ما يعانونه . و يعمل لديها حالياً أبناء موظفيها و طباخيها السابقين لما وجدوا فيها من الصدق و الأمانة و الكرم .
تعطي هيزل المدراء و كبار الطباخين في مطاعمها حصصاً من رأس المال حتى يبقوا معها و يتحفزوا للإبداع و إنجاح المطعم . فلذلك تغيب عنهم فترة طويلة بحثاً عن فرص للتوسع و التطوير , ثم تعود فتجد كل شيء على أحسن ما يكون . و قد حصل أن غابت عنهم مدة 3 أشهر في إحدى عملياتها الجراحية , فما تأثرت مبيعاتها و لا أرباحها إطلاقاً ..
شبّ أبناء هيزل و نالوا الماجستير من جامعة هارفرد في إدارة الأعمال , و صاروا يقودون شركاتهم الخاصة في المطاعم و الضيافة . تقول هيزل أن أحد أبناءها اتصل عليها قبل أيام يقول لها : " يا أمي , علمتينا كل شيء إلا الراحة , فأنت لم تعلمينا كيف نسترخي " !!
هذه بإختصار , قصة كفاح و نجاح السيدة الصينية الكريمة , صاحبة مطعم "الفلفل الأحمر" .. :)
كلمات للبحث:
قصة نجاح المطعم الصيني , قصة نجاح السيدة الصينية , قصة نجاح مطعم صيني , قصة نجاح مهاجرة , قصة نجاح مغتربة , قصة نجاح أم , قصة نجاح فقيرة .
بقلم عقد
مهندس و يحمل الماجستير في إدارة الأعمال . طائر حر يعشق الحرية , عاش متغربا أكثر من عشر سنوات . يحب القراءة و الكتابة و الإبداع . و يهوى تطوير الأفكار و المشاريع . و يسعى لتحقيق عالم أفضل , و مستقبل مشرق لأمته ..شارك أصدقاءك
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
9 تعليق على يا أمي: علمتينا كل شيء إلا الراحة , فأنت لم تعلمينا كيف نسترخي
عنوان رائع لقصة رائعة لسيدة أروع ..!
وأنا أرى أن ابنها محق فعلاً .. فترة نومها وعملها O_O
بارك الله بك .. لقد ملأتني شوقاً لأرى وجه هذه السيدة على الأقل ولكن بحثت بجوجل صور ولم أجد شيء ..!
هل لي أسمها باللغة المحلية ؟
حياك ربي أيها المتابع العزيز ..
شكراً لك على تشجيعك ..
أحس أن هذه السيدة حظت بإعجاب كبير منك .. و هي تستحق ذلك فعلاً ..
اسمها بالانجليزي Hazel Mah
و هذه صور لها:
http://www.firstpicksmgmt.com/people/advisors
http://ctr.concordia.ca/2003-04/oct_9/12-alumni/index.shtml
تحيتي لك ,,
قصة رائعة ومشوقة،إنها قصة كفاح و نجاح تعطينا الأمل في مستقبل جميل واعد.
شكرا :)
بصراحة مقابلة مثل هؤلاء العصامييون تعطيك دوافع معنوية كبيرة ..
الله يحييك أخي/أختي ..
و شكرا لمرورك ,,
مرت فترة ولم يقم أحد بالكتابة .. أفتقدت كتاباتكم
مدونة الحياة البرية الجميع في خمول يحتاجون الى تحفيز لتدوين
قصة رائعة أخي احمد ننتضر المزيد منك
الله يحييكم أخويّ المتابعين .. مدونة الحياة البرية و يونس ..
لولا الله ثم أنتم لما استمريت إلى هذا اليوم (؛
ما حصل أني شغلت بفترة الاختبارات و لم أجد دقائق للتدوين .. ثم سافرت بعدها في إجازة و ها أنا أعود .. و سنعاود الجري من جديد ..
شكرا على حرصكم و متابعتكم (؛
دوما ما تتحفنا بقصص النجاح باعثةالامل
بارك الله فيك
الله يحييك أخي أحمد ..
و إياك ..
شكرا لمرورك ..